من "فبلادي ظلموني" إلى "قلب حزين".. جمهور المُدرجات يصنع سمفونيته

 من "فبلادي ظلموني" إلى "قلب حزين".. جمهور المُدرجات يصنع سمفونيته
الصحيفة: عمر الشرايبي
الأحد 19 ماي 2019 - 12:10

"فبلادي ظلموني".. "بقلب حزين"، و"الحبيبة يا فلسطين".. إنها ليست بعناوين مذكرات معتقلين سياسيين ولا هي شعارات شارع أحمد بورقيبة بتونس أو ميدان التحرير بمصر، وإنما يكفي أن تحجز لك مكانا في مدرجات ملاعبنا المغربية، حيث تدوب الألوان والانتماءات الكروية وراء إبداع من نوع آخر، لتلتقط آذانك رسائلها القوية.

لو منحت تلك السلطة لأطلقت "الفن الثامن" على هذا المشهد، الذي يجمع من كل الفنون السبع الأخرى طربا.

هو طرب من نوع خاص ذلك الذي يحول مدرج ملعب كرة القدم إلى مسرح  "فائق للعادة"، يتمرد على "أب الفنون" ليجعل من الصخب عنوانا لإبداعه، حيث تتناغم الكلمات في "كورال" جماعي له ضابط إيقاعه، فتنطلق السمفونية ليبلغ صداها أقصى المُحيط.

صمت الجميع، فأطلق "السكوادرا" العنان لعشرات آلاف الحناجر التي أمامه. "فبلادي ظلموني.. لمن نشكي حالي.. الشكوة للرب العالي.. غير هو لي داري".. تتمة المعزوفة يحفظها الملايين عن ظهر قلب، ليس فقط بين أوساط جماهير فريق الرجاء الرياضي، وإنما تعدت شعبيتها الحدود، فتغنى بها الشباب "المقهور" الذي رأى في كلماتها ملاذا له، كما رأت الثورة الجزائرية في الشعار محمسا للمسيرات الشعبية ضد عهدة الرئيس بوتفليقة الخامسة، قبل الإطاحة به.

هي صرخة شباب مغربي، نخر"الظلم والفقر" أجسامهم النحيفة، فتحسروا على ضياع مواهبهم وسط "غمامة" المجتمع.

زكرياء بلقاضي، الذي هو نفسه "السكوادرا" أو ما يصطلح عليه في عرف الحركية "كابو الألتراس"،  يكفي أن يبدأ في ترديد الشعار حتى يتبعه مرتادو "الكورفا" الجنوبية لملعب "محمد الخامس".. هؤلاء من طالبوا باطلاق سراحه بعد أن سلبت منه الحرية ليلة سبت أسود، بعد أن حمّله الأمن مسؤولية انفلات الوضع في ذات مباراة، انتهت دامية بين أنصار الرجاء.. هذه الحرية التي ينادى بها من البرنوصي إلى درب السلطان.

"الحرية لي بغينا يا ربي.. الحرية تفاجي ليا قلبي". هو صوت شعب الوداد، الذي تغنت به أنصار الفريق "الأحمر"، قبل سنوات، في صراع مع السلطة من أجل التنفيس عن حركيتها داخل الملاعب، نضال من أجل البقاء والاستمرار، ليظل ذات الابداع قائما ونفس الصوت يصدح، مع اختلاف مضامين الخطاب وتنوع  ألحان كلمات "الوينرز".

هم من تشبعوا بقيم وهوية  ألوان الوداد الحمراء، من جعلوا من المدرج الشمالي منصة لعزف أناشيد "ثورتهم الخاصة". فكان ليسار منصة ملاعبنا ثوار "الالتراس"، خاطبوا المسؤولين عن وضع غير مريح، داخل بلد اختل توزيع ثرواته فهجره شبابه، بعضهم كان يحلم بمستقبل أفضل وهو يتقاسم مع "الوينرز"، مع كل نهاية أسبوع، لحظات تشجيع الوداد..البعض  توفي وهو يحمل معه حكايات مآسي مجتمعية، تنسيها ولو للحظة، تسعون دقيقة مع أوناجم والكرتي، والسقاء السعيدي.

لم تكن لرسائل المشجع الكروي المغربي، أن تجول العالم العربي، في السنوات الأخيرة، إلا وهي تحمل في ثناياها جزء من عبق ربيع المنطقة، الذي بدأه رفاقهم من القاهرة حيث "الوايت نايتس" و"الأهلاوي". إلى أن بلغ مداه "ولاد البهجة" بالعاصمة الجزائر.

ذات يوم من أكتوبر 2013، تدخل الأمن بمختلف تلاوينه في ملعب مركب محمد الخامس ليصادر "تيفو" يحمل عبارة "لله يا جزاير"، ليلة مباراة بين الرجاء ووفاق سطيف عندما تكسر مدرجات الكرة حدود السياسة!

ماضي المدرجات المغربية مع الرسائل ذات الحمولات القوية، لم يكن وليد لحظة وإنما هو تراكم سنوات من الحركية،  فالرسائل قد تكون مقتطفا من أغنية الشاب خالد، تستحضر الإبادات الجماعية، كما تكون تضامنية مع الرئيس الإيفواري لوران غباغبو.. غامضة في جلها تترك خلفها تقارير تشرح مضمونها بالتفصيل الممل، في إبداع فكري ورقي قد يصل إلى حد الإبهار، حتى  أن زعماء أحزاب سياسية وشخصيات مؤثرة في القرار السياسي، ظلت عاجزة أمام ما تجود به "الكورفا" في كل مرة، بالصوت والصورة.

إبداع يحاكي الخيال ومعزوفة تلحن بدقة، كما تؤدى  بحضرة "الفرقة الموسيقية". ترفع أعلام فلسطين لتنطلق الجوقة في "كورال" جديد، تأخدنا كلماته إلى أسرى فلسطين، من البيضاء إلى غزة الأسيرة فيغني جمهور الرجاء للأمّة ويقول: "يا لي عليك القلب حزين.. وهادي سنين تدمع العين.. لحبيبة يافلسطين.. آه يا وين العرب نايمين". ثلاث دقائق تتكلم فيها جماهير الرجاء بصوت المدافع عن القضية الفلسطينية، تناشد حكام العرب، علهم يستفيقون من سباتهم داخل مجالس قممهم الموسمية.

"أمّة مريضة بالمشاكل وفساد الحكومات ومستقبل كله ظلمات".. هكذا يصورون المشهد في لوحة جميلة، تحمل بين ثناياها صرخة شعب يشارك إخوانه العرب ذات الهموم، من الشمال إلى الجنوب.. يستغل منصته ليوصل صوته، هذا الأخير الذي لقب باللاتينية "Vox Populi" قبل عقد من الزمن، ليظل كذلك في محاكاته للواقع المعاش.

واقع تعليمي متدهور كما وصفته "حلالة بويز" في مدرجات ملعب القنيطرة، حيث أصبح الشباب يفكر في الهجرة عبر قوارب الموت، كحال العديد ممن أضحى يتغنى بهاته الأهازيج وهو يواجه القدر داخل قارب مطاطي في عمق السواحل. قد  يصل يوما إلى الضفة الأخرى أو تصبح صورته بين معلقات "الكورفا" يتذكره بها أصدقاؤه عن قصّة آخر "ديبلاصمون" بحثا عن الحرية. هذا المبدأ الأسمى الذي يتكرر في كل الشعارات.

وإن كانت الحركية تقاوم بنبضها المتواصل، فإنها استطاعت برسائلها وأهازيج مدرجاتها، أن تكسر "الطابوهات" وترفع من سقف المطالب والشعارات، كما تستمد شرعية ومصداقية فقدت عن أهل وصناع القرار، هؤلاء الذين حاولوا تكميم الأفواه ومصادرة "الاولتراس"، لكن الشباب ظل صامدا يواصل الابداع. فمتى كان "فن الالتراس" جريمة؟! وكيف لمبدعي سمفونيات المدرجات أن يكونوا عنوانا لـ"الشغب"؟

 الجزائر.. وأزمة هُوية سَحيقة

انحدر النظام الجزائري إلى حفرة عميقة من التاريخ للبحث عن هوية مفقودة، يبني بها شرعيته كنظام قتل 250 ألف جزائري في العشرية السوداء (2002-1991). وهو ذات النظام الذي يبحث، أيضا، ...

استطلاع رأي

كمغربي أو مقيم في المغرب، هل تشعر أن ارتفاع الأسعار ونسبة التضخم أثرت على:

Loading...